الوصية السابعة:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، نظرًا لخطورة التكبُّر والاستعلاء ومضارِّه الواضحة على الفرد والمجتمع، فقد كرَّر لقمان النهي عنه لابنه، ولكن في أسلوب مغاير للسابق، لعدم إثارة الملل والرتابة، وهو في ذلك يعبر بقوله: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾ مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض، فقصد من المشي مع الناس على اختلاف ألوانهم وأشكالهم؛ أي: لا تمش مع الناس وأنت بينهم مختالاً مزهوًّا فخورًا بنفسك، بل أَلِنْ جانبَك، وتواضع لهم، فهو يُشعره بهذا الأسلوب أنه مساوٍ لجميع الناس الذين يمشون على الأرض.وبعد أن أنهى لقمان وصيته السابعة أتبع وصيته بأسلوب حكيم في شدة التنفير، وحيث إن سلوك الكِبر والفخر على الناس لا يرضاه الله ولا يحبه، وبالتالي لا يحب فاعله، فهذا الأسلوب جاء تأكيدًا وتعزيزًا للوصيتين السابقتين، بما لا يدع مجالاً للوقوع في هذا الدَّاء العُضال.ومنه نتعلَّمُ أن النهي عن السلوك الشائع أو الأمر بالسلوك الغائب يَنبغي أن يُكرَّر ويؤكَّد، ولكن بأسلوب لا يبعث على الملل؛ لأن التكرار يؤكد المعنى ويُرسِّخه، ولكن مع المغايرة في الأسلوب، حتى لا يكون باعثًا على الرتابة والملل فتضيع ثمرته، وهذا التكرار هو الأسلوب الرابع من أساليب التربية التي استخدمها لقمان الحكيم مع ابنه.
الوصية الثامنة:
قال تعالى: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾ [لقمان: 19]، بعد أن انتهى لقمان من نهْي ابنه عن الأمور التي تجلب الكُرْه والبغضاء بين الناس، شرع في توجيهه إلى ما يبعث على الاحترام والألفة، وبعد أن بيَّن له آداب معاملة الناس أتبعه ببيان آدابه الخاصة به، والقصد: هو الاعتدالُ والتوسط في الأمور كلها؛ فهذه دعوةٌ للاعتدال في كافة الأمور دون إفراط ولا تفريط، فحياة الإنسان على ظهر الأرض قائمةٌ على الاقتصاد والاعتدال في كل مناحي الحياة، في الطعام والشراب، في النفقة والكساء، في مُعاشرة الخَلق، في النوم واليقظة، في السعي والعمل...، في كل شيء، ولكن لقمان خصَّ المشي بالاعتدال، وربما قصد منه أن المشي مجتمِع فيه أغلب شؤون الحياة، فمَن أكثر الطعام وأقلَّ من النوم لا يستطيع الاعتدال في المشي، وهكذا، ومَن أبطأ في المشي عرَّض نفسه للفتن، فربما وقع نظره على محرَّم؛ فالطرقات لا تخلو من الفتن، كما أن الإسراع ربما يؤدي إلى الهلكة، فالاقتصاد أولى، وربما خصَّ لقمان المشي بالذكر لأنه أظهر ما يلوح عن الفرد.
الوصية الأخيرة:
قال تعالى: ﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ﴾ [لقمان: 19]:هذه الوصية هي حثٌّ على الثقة بالنفس، وتنفير من سوء الأدب؛ فالصوت المرتفع دليل على ضعف حجَّة صاحبه، فهو يُحاول أن يُفحم المخاطب ويَحمله على رأيه بعلوِّ الصوت بدلاً من الحجة والإقناع؛ لذلك فهو شاكٌّ فيما يقول، لا يقدر شخصيته، يَشعُر مع ذلك بالنقص، فيُحاول أن يستعيض عن ذلك بالحدة والغلظة في القول، لذلك فهي وصية ضمنية بمثابة دعوة وحثٍّ على التثبُّت والتروِّي قبل الكلام، والوثوق بالنفس وتقدير الذات.وفي قوله: ﴿ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 19]، لقمان بهذه الجملة يُزوِّد ابنه بالمعلومات في أثناء انشغاله بنُصحه وإرشاده، فجمَع فيها بين التنفير والتحذير من ارتفاع الصوت وبين إكساب المعلومات وتوسيع مدارك العقل.وما فعله لقمان يُنادي به التربويون اليوم، فهم ينبهون على أن المربي الجيد هو الذي يجمع بين التوجيه والإرشاد وبين التزويد بالمعلومات والبيانات.