روعة الحضور في عبادة العزيز الغفور تتمثل بقوة السكينة والطمأنينة والخشوع الحاصل في أعظم عبادة وأقوى ركن من أركان الإسلام، وتظهر صورتها المنورة في بيوت الرحمن التي أقامها الشرع الشريف صروحًا لعبادته تعالى وعظيم توحيده ونور محبته ودوام ذكره وطيب مناجاته، وأذن سبحانه لعباده من تحقيق هذه الصور الروحية المستمدة من إيمان يملىء القلوب، وتطبيق لأحكام الشريعة بوسطية وتوازن واعتدال والتزام، وتفعيل لمسار الأخلاق والفضائل على هدي وطريقة سيد الرجال صلى الله عليه وسلم وعلى الأصحاب والآل فقال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريمفي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأبصار* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يشاء بِغَيْرِ حِسَابٍ).
ويلاحظ بوضوح تام في الآية الكريمة التصريح بمراد الله عز وجل بقولهفِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ): والبيوت هي المساجد التي جعلها الله تعالى مكاناً لعبادته وذكره ودعائه، والتعرف على هدي وشريعة حبيبه سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم والاجتماع بعباد الله الصالحين العارفين، وأراد الله عز وجل لخلقه أن يرفعوها في العمران الذي تقوم به أعمدتها ويرتفع به سقفها، وتحلو وتصفو بنظافتها وطهارتها ونقائها، والتماس مواطن السكينة الجسدية بعيدًا عن مصادر التلوث البيئي من مؤثرات النجاسات الحاملة لكل أنواع الفايروسات المسببة للأمراض والعلل والمنفرة لطبيعة الإنسان وذوقه، وكذلك البيوت النقية الخالية من كل صور تلوث الأصوات وضجيج الأسواق والشوارع والملاعب في درب الحياة ،
وبالتالي تسمو بيوت الرحمن في العبادة الخالصة التي أراد الله تعالى أن ترتفع أرواح عباده بها إليه، فتعرج إليه في مواقع العبودية ومواضع السجود، وفي آفاق الصفاء والذكر الروحي والخشوع والنقاء.
وهكذا جاء الإذن الرباني الذي يريد الله تعالى أن ترتفع البيوت بالمعاني الروحية الصافية والتي تبني للإنسان إنسانيته، وتحرّك دوافعه الإيمانية في الحياة، وتوحي له بالمعاني الخيّرة التي تجعل منه إنسان الخير والمحبة والصفاء والسكينة والسلام، لا إنسان الشرّ والتطرف والغوغاء والتعصب والإرهاب.
تلك هي مهمة المساجد في المفهوم الإسلامي ووظيفة العاملين فيها، وهذه هي رسالتها الخالدة العامرة بطاعة الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والموسومة بوجوه الوسطية والاعتدال والتوازن المادي والمعنوي، وأن تكون المساجد حضناً لروح الإنسان وصفاء قلبه وسعادة نفسه واستقرار فكره وإتقان عمله، ومصنعاً لبناء شخصيته وزيادة وعيه الحضاري، ومنطلقاً لتأصيل أهدافه وتجديد حضارته الإسلامية الراقية، وخطاً لتحريك خطواته الروحية الذاكرة والعلمية النافعة والثقافية الباقية، وموقعاً للبدايات الحضارية السامية التي يحدد على أساسها خط السير إلى غاياته وأهدافه الصادقة النبيلة بمرضاة الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. وذلك من خلال إحياء أجواء الذكر والتلاوة والصلاة، وحسن الاستماع للوعظ والإرشاد النافع ، ومزاحمة ركب العلماء وذكر الله معهم وفي حضرتهم، واستنشاق عبير هديهم النابع من رياض قلوبهم العامرة بالحضور والسرور والصفاء والمحبة والنقاء، والتعرف على وجوه الدعاء والصلاة مع الجماعة بالخشوع وحسن التلاوة والأذكار في كل صباح ومساء.
والإذن هنا يوحي بمعنى الانقياد لله تبارك وتعالى والارتباط به، لحاجة الإنسان إلى صدور الإذن من الله جل جلاله له، في ما يريد أن يقوم به من قول وعمل وحال، وما يريد أن يرفع من بيوت، فليس له أن يبتدع ما لا يعلم أن الله تبارك وتعالى يأذن به، أو ما يعلم أن الله عز وجل لا يأذن به، من ناحيةٍ عامةٍ أو خاصةٍ.
فيُذْكَرَ العبد. فِيهَا اسْمُهُ سبحانه في ما يعنيه الذكر لاسمه تبارك وتعالى من استحضار عظمته وهيبته في نفوس وقلوب عباده، ليكون ذلك منطلقاً للشعور بحضوره الدائم في حياتهم في كل الوجوه والأشكال بدرب الحياة، وليدفعهم ذلك إلى المزيد من التوحيد والطاعة والاستسلام والخشوع في العبادة، أو في بناء وتجديد حضارة الإسلام حضارة الإيمان والعلم والإحسان، أو في حركة الحياة.
ونأمل هنا من السادة العلماء العارفين والمشايخ المربين، والخطباء وأئمة المساجد الأكارم، والوعاظ والدعاة الطيبين تجديد دعوة المسلمين إلى تحقيق رسالة المساجد بكل وجوه السكينة والهدوء والطمأنينة والخشوع الملائم للإذن الإلهي في كتابه الكريم بإعمار بيوت الرحمن بالذكر والشكر وحسن العبادة بعيدًا عن القيل والقال وارتفاع الأصوات داخل حرم المساجد بما يشبه أحوال البيع والشراء في الأسواق، أو حال بعض المجالس الشعبية الخالية من الهدوء والخشوع، والملاعب الرياضية للأسف الشديد.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمًا وفهما وذوقا وادبا وصبرًا توفنا مسلما والحقنا بعبادك الصالحين العارفين يا أرحم الراحمين.